بقلم محمود البنهاوي
في الوقت الذي يستطيع فيه سائقو السيارات في مدننا العربية بشكل متزايد الاعتماد على التطبيقات الإلكترونية من أجل اختيار أفضل الطرق داخل المدينة للوصول لوجهتهم النهائية، لا يتوفر هذا الخيار لمستخدمي المواصلات العامة؛ إذ لا توجد تطبيقات تساعدهم على معرفة أنواع المواصلات وطرقها في رحلاتهم داخل المدينة. ورغم أن هذا النوع من التطبيقات الإلكترونية متوفر في العديد من الدول حول العالم، إلا أنه بسبب عدم توفر البيانات الأساسية التي تحتاجها مثل تلك التطبيقات لا يتمكن المواطن العربي من الاستفادة من هذه التطبيقات.
لا توفر سلطات النقل الرسمية البيانات المفتوحة عن المواصلات العامة، والتي قد تمكّن المواطنين، لو توفرت، من الاعتماد على تلك المواصلات في تنقلاتهم، كما يهدر غيابها فرصًا أخرى لفهم شبكات المواصلات القائمة والنظر في فرص تطويرها.
البيانات المفتوحة هي بيانات يتم إنتاجها ونشرها بشكل يتيح إعادة استخدامها مرة أخرى. وتكتسب البيانات المفتوحة أهمية خاصة في المواصلات العامة نظرًا لكونها خدمة عامة تمكن مواطني وزائري المدن من الحركة داخلها دون الحاجة لامتلاك سيارة خاصة.
في مدينة كالقاهرة، يستعمل 75% من المواطنين المواصلات العامة في حياتهم اليومية. وفي خارج المسارات اليومية من المنزل إلى مكان العمل أو الدراسة، يبقى الفرد عاجزًا عن معرفة المواصلات العامة المتاح استخدامها للتنقل في ظل غياب خرائط دقيقة وتطبيقات يتم إنتاجها باستخدام هذا النوع من البيانات. من أجل إنتاج تلك الأدلة لمواصلات المدينة، يجب أن توفر سلطات النقل الرسمية البيانات للجميع مصحوبةً بكامل إحداثيات الرحلات الجغرافية طوال مسارها؛ بما يشمل مواقع وأسماء المحطات على طول الخطوط. وعلى تلك البيانات أن تكون متوفرة بصيغة يسهل استخدامها لكي تتمكن التطبيقات من قراءتها ومعالجتها. كما يجب أن تتمتع البيانات بمستوى عالٍ من الدقة والتحديث في مستودعات إلكترونية متاحة عبر الإنترنت حتى تستطيع التطبيقات التواصل معها إلكترونيًا وتحديث خدماتها إذا ما طرأ أي تغيير على خدمات النقل العام.
لا يحتاج توفير البيانات المفتوحة إلى جهد كبير من قبل السلطات الرسمية، حيث يستطيع أي هاتف ذكي متوسط الإمكانيات تتبع إحداثيات حركة وسائل النقل دون الحاجة لتكلفة باهظة. ولكن في حال تقاعس الهيئات الرسمية يحتاج توفير هذه البيانات إلى جهود كبيرة من المتطوعين والمجتمع المدني والأكاديمي. في مدينة نيروبي الكينيّة، احتاج توفير قائمة كاملة للمواصلات العامة شراكة جامعات كينية وأمريكية ومجموعات من الطلاب يستقلون مركبات النقل الواحدة بعد الأخرى متعقبين مساراتها عبر تقنية تحديد المواضع (GPS) في هواتفهم المحمولة، وانتهى المجهود بأول قائمة للبيانات المفتوحة للمواصلات العامة المدينية تم جمعها بواسطة جهود غير رسمية.
كانت التجربة الكينية ملهمة لفريق مبادرة «مواصلة للقاهرة» المصرية لتطوير قائمة ببيانات المواصلات العامة في القاهرة. «بدأنا بفريق من خمسة أشخاص وأردنا في البداية رسم خريطة للمواصلات العامة، ولكن الأمر تطور ليشمل إنتاج قاعدة بيانات مفتوحة عن المواصلات في القاهرة»، يقول محمد حجازي من فريق المبادرة.
لم يحاول فريق المبادرة الحصول على البيانات الرسمية لأنها بحسب قولهم معدومة. «يتيح موقع محافظة القاهرة ملف PDF يحتوي فقط على 843 خط مواصلات من مجموع خطوط القاهرة، كما أن به الكثير من العيوب؛ فهو يحدد فقط نقطة بداية الخط ونهايته، وربما نقطة أو اثنتين خلال المسار، نحن نبحث عن المسار التفصيلي للخطوط وفي أي الشوارع تسير وفي أيها تنعطف، ولا تملك الهيئات الرسمية ذلك المستوى من البيانات المفصلة بحد علمي»، يقول حجازي.
من أجل توفير البيانات، استقل الفريق خطوط المواصلات وتعقب مساراتها، وحاولوا قبل ذلك الاستعانة ببيانات قديمة عن المسارات التفصيلية لبعض الخطوط سبق ونشرها البنك الدولي في إطار تعاونه مع السلطات المصرية في رقمنة خرائطها الورقية. «كنا نقوم بتصوير الحافلات العامة في الشارع مقرونة بالإحداثيات الجغرافية لمكان التقاط الصورة، ونقارنها مع ما توفره تلك البيانات المحدودة لتحديد صلاحيتها من عدمه»، يقول حجازي. أثبتت تجربة الفريق أن أغلب البيانات قد عفا عليها الزمن؛ ما دفعهم لإنتاج بيانات تفصيلية بمسارات 20 خط حافلة. وتعقد المبادرة ورشات عمل مع المبرمجين المهتمين بتطوير استخدام تلك البيانات، وسابقًا نشرت المبادرة بعض البيانات التي قامت بجمعها بصيغة رقمية تتيح للمبرمجين استخدامها في تطوير تطبيقات.
في عمّان، بدأت الفكرة منذ نحو عام، عندما قام فريق حملة «معًا نصل» المهتمة بتحسين النقل العام، والمكونة من عدد من مؤسسات المجتمع المدني، بالتواصل مع مدرّس أمريكي يعمل في الأردن اعتاد استخدام المواصلات العامة في تنقله لمحل عمله خارج العاصمة، وكان المدرس يقوم بتعقب مسارات المواصلات باستخدام الهاتف المحمول وتغذيتها لخرائط جوجل لتكون مرجعًا عامًا في غياب البيانات الرسمية. اهتمت مبادرة «معًا نصل» بالفكرة وارتاد المتطوعون خطوط المواصلات وتعقبوا مساراتها. نتج عن ذلك قاعدة بيانات لـ100 خط مواصلات داخل العاصمة، لترسم بعدها المبادرة مسارات 76 خط منهم في خريطة «خطوطنا» التي تستهدف مساعدة الجمهور في استخدامه للمواصلات لتكون أول خريطة مواصلات عربية تم إنتاجها بجهود غير رسمية.
يقول حازم زريقات من المبادرة أن أمانة عمان الكبرى تملك مستوىً متقدمًا من البيانات الدقيقة عن خطوط المواصلات العامة وإن كانت غير متاحة للجمهور: «رفضوا إعطاءنا البيانات في البداية، ما دفعنا للاعتماد على جهود المتطوعين في تجميع بيانات عن خطوط المواصلات العامة، وبعد ذلك قامت أمانة عمان بإمدادنا بالبيانات وإن لم نستخدمها سوى في مقارنتها مع ما قمنا بجمعه من بيانات لتأخر توفير البيانات الرسمية». تأمل المبادرة أن يتم تطوير تطبيق للهواتف المحمولة يسمح للمستخدمين بتحديد وجهتهم النهائية ليظهر التطبيق لهم خطوط المواصلات العامة، كما تعتزم إطلاق قواعد البيانات المفتوحة للجمهور كما فعلت مع بعض البيانات في مراحل سابقة.
ورغم طرح المبادرتين مجهودها للفضاء العام، لا يزال رد فعل الجمهور غير واضح، «لا نملك مؤشرات دقيقة عن مدى استخدام الجمهور للخريطة» يقول زريقات. ويضيف أنه «على الرغم من ذلك، اجتذبت البيانات اهتمام مؤسسات دولية أبدت رغبتها في دعم استمرار المشروع، كما اهتمت هيئات أردنية بنقل التجربة لمدن أخرى». كما جذبت مجهودات الفريق المصري اهتمام هيئة تنظيم النقل الرسمية بالقاهرة التي تباحثت مع فريق المبادرة في إمكانية التعاون رسميًا.
بالنظر إلى المواقع الرسمية لهيئات تنظيم النقل في الأردن ومصر، نجد عدم إدراك أهمية البيانات المفتوحة جليًا في المقاربات التي انتهجتها تلك الهيئات في توفير معلومات عن خدمات النقل العام. يبرز هذا بوضوح في تجربة أمانة عمان، فقد قامت الأمانة بتطوير موقع إلكتروني يعرض تطبيقًا لاستخدام وسائل المواصلات العامة، ولكن بالدخول إلى الموقع يتضح عدم تبنيه البيانات المفتوحة. فأولًا لا يعمل الموقع سوى باستخدام برنامج خاص لعرض المحتوى ينبغي على المستخدمين تحميله مسبقًا. وبتخطي تلك العقبة، يجد المستخدم نفسه أمام تطبيق لا يساعده على الوصول من نقطة إلى أخرى، ولكن تقتصر جدواه على الاستعلام عن مسار خط محدد يقوم المستخدم بتحديده مسبقًا. وعلى الرغم من أن تطوير هذا التطبيق احتاج إلى بيانات جغرافية دقيقة عن مسارات المواصلات تملكها الأمانة، إلا أنها لم تقم بإتاحة تلك البيانات بصيغة مفتوحة لاستخدامها وتطويرها، بل استعاضت عن ذلك بتقديم تطبيق يشوبه الكثير من جوانب النقص. أما بالنسبة لمحافظة القاهرة وهيئات النقل العام المتعددة بها فجل ما سيعثر عليه المستخدم هو بيانات عامة عن عدد مركبات النقل ومحطات انطلاقها ووصولها، دون أي تحديد للمسارات التفصيلية أو تقاطع تلك الخطوط مع خطوط النقل الأخرى، ما يجعلها غير ذات جدوى من الناحية العملية.
وبخلاف أهمية البيانات المفتوحة في تمكين المواطنين من استخدام وسائل النقل العام في حياتهم اليومية، تعطي تلك البيانات القدرة على فهم كيفية حركة الناس في المدينة، وما ينتج عن ذلك من فهم واقع العمل والعيش وتوافر الخدمات في المناطق المدينية المختلفة. يقول زريقات إن البيانات التي جمعتها «معًا نصل» يتم استخدامها حاليًا في جامعة هارفرد لتطوير خريطة توضح قدرة وصول الأفراد في عمان إلى فرص العمل والخدمات الصحية وغيرها اعتمادًا على المواصلات العامة كما حدث قبل ذلك مع خريطة لمدينة نيويورك. وتعاونت مجموعة العمل المصرية مع مبادرة أخرى من أجل تدوير البيانات الرسمية وفتحها لتعكس واقع توزيع السكان والخدمات وفرص العمل.
في غياب البيانات، يبقى التنقل في مواصلات المدينة معتمدًا بقدر كبير على التجربة والخطأ، وفي أحسن الأحوال على السؤال المستمر للمعارف، وللغرباء في الشارع والمحطات. في حين أن توفير تلك البيانات مهمة بسيطة تستطيع السلطات الرسمية تقديمها كما يحدث في كثير من مدن العالم؛ حيث يستطيع أي مبرمج الدخول لموقع البيانات المفتوحة للمواصلات في مدريد سنغافورة وكيب تاون وريو دي جانيرو وغيرها من المدن، وربطها بما يريد من تطبيقات وخرائط، بما ينتج عن ذلك من قدرة على التنقل والحركة دون الحاجة لسؤال.